قصـّـتي مـع الشــــعر
لست أدري متى بدأت قصتي مع الشعر. كل ما أذكر أنني كنت في الصف الإبتدائي الخامس عندما وقع نظري على جزئين من ديوان المتنبي وبدأت أقرأ فيهما.
كان كل جزء سميكاً ، مجلّداً بجلد قديم ولا بد أن أنهم اشتريوا مستعملين من أحد باعة الكتب القديمة في الشوارع الداخلية في طرابلس الفيحاء. فرحت بأنني أقرأ في كتاب كبير عدد صفحاته كثيرة بالنسبة للكتب الصغيرة التي كنت أدرس فيها في المدرسة. أود أن أقول بأنني كنت أفاخر بحمل كتب غير مألوفة في المدرسة....وهذه أول أشارات الشعور بالرجولة والنضوج وكانت هذه المرحلة الأولى .
لم أكن أفهم كثيراً مما كنت أقرأ على الرغم من الشرح الوافي للشيخ محمد عبده في تفسير ديوان المتنبي . كان كل اهتمامي أن أغني هذه القصائد لنفسي بحسب موسيقاها . في المرحلة الأولى كنت أقرأ صدر أحد البيوت وعجز بيت أخر ثم أغنيها...ومن ثم أكتبها. كنت أكتب قصيدة هي مزيج من صدور أبيات وأعجاز أبيات أخرى بدون أي ترابط فكري أو معنوي للقصيدة.
في المرحلة الثانية كنت أطّلع على دواوين أخرى لأبن الرومي والبحتري وأبي تمام وغيرهم، وكنت أبني قصيدة جديدة مسروقة من عدة شعراء، ولا أحد يعرف من أين وكنت أقرأها لزملائي في المدرسة. وهكذا بالسجية بدأت أكتشف بحور الشعر المتشابهة. أعني عندما أختار صدراً من قصيدة للمتنبي وأركب عليها عجزاً من قصيدة لأبي تمام ، كنت بالفعل أختارها من نفس البحر للشبه الموسيقي ليس إلاّ.
تطورت اهتماماتي بالشعر وانتقلت إلى مرحلة ثالثة ظننت أنني مكتشفها ولكنني مع الزمن اكتشفت أنها كانت تستعمل من قبل الشعراء سابقاً. هذه المرحلة هي تشطير الأبيات. أي أنني كنت أحاول بناء قصيدة لها معنى. فكنت أكتب صدر البيت من قصيدة المتنبي مثلاً، وأحاول تأليف العجز حتى يصبح للبيت معنى. وتارة أكتب الصدر من كلماتي والعجز من القصيدة التي كنت أقرأها. في هذه المرحلة كنت أفرح بتأليف قصيدة لها معنى على الرغم من أن نصفها مسروق. في المرحلة الرابعة، بدأت بتأليف قصائدي الشخصية كما يلي: كنت أقرأ أحد الأبيات، وأضع كلمات بيتي كلمة كلمة مثل بيت الشاعر بشرط أن يكون لها نفس الموسيقى ورويداً رويداً بدأت أبياتي تحمل معنى، وتستقيم وزناً لأنها مرآة لقصيدة أحد الشعراء.
مع الزمن ، وقد أصبحت أدّعي أنني أنظم الشعر ، بدأت المرحلة الخامسة وكنت أقلد فيها الموسيقى الإجمالية لبيت الشاعر بدلاً من كلمة كلمة وأؤلف البيت بالمعنى الذي أقصده. وهنا بدأت المشاكل، إذ تخرج أبياتي مكسورة أحياناً في صدرها أوعجزها، ربما لأن بعض البحور الشعرية قريبة من بعضها ولم أستطع التفريق بينهما...وهكذا تكون قصيدتي مزيجاً من بحور متشابهة، ولكنها تحمل المعنى الذي أقصده. مع الزمن بدأ الوضع يتحسن وبدأت أشعر بأنني أكتب شعراً يستحق القراءة.
ذات مرة، جلست في أحد امتحانات الإنشاء العربي، وربما كنت في الصف التكميلي الثالث . كتبت موضوعاً جيداً وكنت من أحسن أقراني بالإنشاء. ولكن نزوتي للشعر أبت إلا وأن تتدخل حتى بكتابة موضوع الإنشاء في امتحان نصف السنة . فعندما كنت أكتب عن فكرة معينة كنت أقول " كما قال الشاعر" وأكتب بيتاً أو إثنين من تأليفي . عندما قرأ الإستاذ موضوعي ، أعجب به بصورة عامة، ولكنه سألني: "بالله عليك، هل أخبرتني من هو الشاعر الذي كنت تستشهد بأقواله؟"، فأجبته: " نعم يا إستاذ، إنه أنا". فقال لي تابع كتاباتك الشعرية، كلما ألّفت قصيدة، أرني إياها حتى أصلّحها لك. هذا الأستاذ كان المربي الكبير الأستاذ درويش التدمري، رحمة الله عليه. لقد كان شاعراً فذّاً ولكنّه لم يترك وراءه أي مؤلفات شعرية ماعدا كتاب في الأدب العربي كان يُدرِّس في المرحلة الثانوية .
الانطلاقة إلى المجتمع :
تشجعت كثيراً، وكنت أقرأ لأترابي وزملائي في الصف ما كنت أكتب من شعر ، وكلهم كانو يشجعونني . عندما كنّا نخطط لأي تظاهرة طلابية ، كان زملائي يطلبون مني تحضير قصيدة لألقيها في المظاهرة. كانوا يحملونني على الأكتاف عندما ألقي قصائدي . هذه المظاهرات كانت بمناسبات وطنية أو قومية أو مطالبة بأمور طلابية ومنها التدريب العسكري وخلافه. هنا كان الحس الوطني هو أن تهاجم الدولة والمسؤولين وكنت كلما ألقيت قصيدة أهاجم فيها الدولة ، تكون الشرطة (الدرك) لي بالمرصاد. فما أن أنتهي من إلقائها حتى يتم إلقاء القبض علي ليأخذونني إلى السراي للتحقيق. ولكن تشتد تظاهرة الطلاب ضدهم وتحاصرهم حتى يتركونني. أضف إلى ذلك أنه كان لي أقرباء في القضاء وأصدقاء في النيابة العامة، فكانوا يوعزون للدرك أن يتركوا هذا الشاعر المراهق لأنه لا يشكل خطراً على أمن الدولة.
بعد هيصات المظاهرات، كنا نعمل حفلات في المدرسة في بعض المناسبات: كعيد المولد النبوي الشريف، وعيد الإستقلال وعيد المعلم وغيرها. كان يختارني أستاذي أن ألقي قصيدة بإسم الطلاب، أو باسم فريق الكشاف أو الفرقة الموسيقية اللذين كنت أنتمي إليهما. وهنا كان التصفيق يعلو من الحضور، والغرور يأخذ مداه في نفسي حتى أتى يوم كنا نحتفل فيه في كلية التربية والتعليم بعيد المولد النبوي الشريف . أذكر أنني القيت قصيدة طويلة بدأتها كما يلي:
باسم الاله الواحد القهّار
باسم النبيّ المصطفى المختار
باسم الذي رفع السماء بفضله
باسم الذي بعث الـهدى لـنزار
كان في هذه الحفلة شخص مهم ، أظنه مختار أحد المناطق في طرابلس وكان أبنه معنا في المدرسه. بعد ما سمع قصيدتي طلب مني أن أذهب معه إلى حارته حيث هناك حفل خطابي بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف، لألقي نفس القصيدة. ذهبت معه وقدمني عريف الإحتفال كخطيب إضافي لم يكن ضمن لائحة الخطباء. وبينما كنت ألقي قصيدتي ، كانت الهتافات تتعالى، وتطور التشجيع إلى إطلاق الرصاص في الهواء. كان الجميع معجباً بالقائيِ وسمعت الكثير من المديح. أذكر أنني كنت ألبس اللباس الرسمي للفرقة الموسيقية والبنطال كان قصيراً (شورت) . وعندما كان هؤلاء الناس يأتون لتـهـنـئـتـي على هذه القصيدة بمناداتي : " يا أستاذ "، لم يحمل رأسي هذا الاحترام الزائد وملأني الغرور وقررت أن أكون شاعراً كبيراً أملأ الدنيا ولذلك قررت ان أنمّي هذه الموهبة يوماً بعد يوم .
المناسبات الإجتماعية :
انا من قرية صغيرة في شمال لبنان ، قضاء الكورة إسمها بنهران . إنها مزرعة صغيرة تحيط بها قرى صغيرة من طوائف مختلفة كانت تتعايش مع بعضها كعائلة واحدة وما زالت . كان هناك مشاركة بين هذه القرى في السرّاء والضرّاء ، وكنا نتزاور في الأفراح والأتراح وكلنا نقوم بواجبنا تجاه الجيران حسب المناسبات .
عندما يتوفى شخص في قريتنا أو في أي قرية مجاورة . يأتي من يقول لي بأن المناسبة تحتاج إلى قصيدة منك . كنت أفرح بذلك ، وكان همّي أن أظهر إلى المجتمع كشاعر ويتكلم عني الناس . لا بأس أن يكون المنبر منبراً ، أو حائطاً عالياً قرب جامع أو كنيسة أو مقبرة . ليس المهم أن يكون الفقيد رجلاً مرموقاً أو عادياً ، ولا يهم أن يكون أمرأة أو رجلاً ، متزوجاً أم عازباً . كنت أسأل عن الفقيد أسئلة وجيزة ، وأترك العنان لمخيلتي لتقوم بالباقي في كتابة الخطاب أو القصيدة . لا يفيد الاطناب في التكلم عن كل المناسبات التي كنت أقف فيها خطـيـاً أو شاعراً . وما سبق وقلته يعطي فكرة عن الجو الإجتماعي والأدبي الذي وجدت نفسي فيه .
نظم الشعر والمدرسة
كان الجميع يعرف أنني كنت من الأوائل في صفي في كلية التربية والتعليم في طرابلس . فعلاً كنا أربعة أشخاص نتبادل الدرجات بين الأول والرابع . كنت أعطي لدروسي كل طاقتي ، لكنني لم أكن أستطيع الذهاب إلى فراشي قبل أن أنظم بعضاً من أبيات الشعر .
في الصف التكميلي الثالث ، كنت أسكن مع ابن عمي وصهري (زوج أختي) الشيخ محمد علي مهدي في طرابلس لأن أهلي كانوا يسكنون في القرية . كان ابن عمي ينهرني للكفّ عن الدّرس والذهاب إلى النوم . وعندما يكون منـرفـزاً ولا استطيع مناقشته أذهب إلى فراشي في غرفة فيها سريران . وبعد أن تطفأ الأنوار وينام الجميع ، وأنا لا أزال مستيقظاً أدَّعي النوم ، كنت أضوّي ضوء بطارية يد وأضعها تحت اللحاف السميك (حتى لا يخرج الضوء إلى الخارج) وأكتب الشعر . وبهذه الطريقة كتبت الكثير من أشعاري إلى أن اكتشف أمري .
لعلني مرة كنت أدندن بالقصيدة تحت اللحاف ، فسمعني صهري ، وأزال اللحاف عني فإذا به يجد ضوءاً وقلماً ودفتراً وممحاة . صبّ جام غضبه علي وصفعني قائلاً :" بدك تمرض من كثرة السهر " . ومهما يكن ، من كان مدمناً على شيء ، يصعب عليه تركه . وهكذا كانت حالتي ... واستمرّيت في كتابة الشعر وإلقائه في مناسبات كثيرة بحيث ارتفع مستوى الجمهور في مراحلها الأخيرة خاصة عندما يكون الاجتماع في صلح عشائري ، أو مأتم شخص مرموق ، أو مناسبة عامة . كانوا يختارونني ربما كأصغر شاعر يعرفونه أو كمعجزة بشرية ليس لها مثيل ، وكل هذا غير صحيح طبعاً لكن بـيـئـتـنا الصغيرة فرضت هذا الإحتمال .
الديوان والنهاية
خلال هذه الفترة القصيرة كنت أدوّن معظم قصائدي في دفتر سميته " حديقة الجبل " . ذات يوم ، مرضت ولم أذهب إلى المدرسة . جلست في سريري أدرس المطلوب مني في المدرسة . وبعد الانتهاء من ذلك بدات بكتابة قصيدة ربّما عن آلامي وأوجاعي . جاء أحد أبناء عمي لزيارتي . وبعد السؤال عن صحتي سألني ماذا أفعل . قلت له إنني اكتب أبياتاً من الشعر .
هنا غضب الرجل وقال بعصبيّة :" الشعر لا يطعمك خبزاً ، كفاك من هذه الأمور الصبيانية . إدرس أموراً علمية واعمل مهندساً أو طبيباً بحيث يكون لك مركز في المجتمع وتعيش حياة كريمة " . وعندما زاد في تعنيفه لي ، مسكت " حديقة الجبل " ومزقتها إرباً إرباً ورميتها في سلّة المهملات ، وأقسمت بأن لا أنظم الشعر بعد ذلك اليوم .
كان عمري حوالي السادسة عشرة في ذلك الوقت . لقد كتبت قصائداً جميلة كان يهنئني عليها الكثيرون عند سماعها . وفي لمحة بصر ، مزّقت آثاري وتاريخي . جلست بعد ذلك أبكي على " الفقيد " الذي لن يعوّض . وهكذا ذهبت جميع كتاباتي أدراج الرياح. لكنني كنت أحياناً أرى بعض المسودات بين أوراقي عندما كنت ارتب دفاتري وكتبي . وكنت أمزقها وأرميها لانني رميت القصائد الكاملة فلماذا أبقي على هذه النتافات التي لا تعني لي شيئاً بعد أن طلقت الشعر .
وهكذا انتهت فترة كنت فيها مبدعاً بالشعر ضمن إمكانياتي الفكرية وعمري الصغير . أحزن كثيراً الآن كلما تذكرتها لأنها لن تعوض .
التمتع بالشعر
ذهبت إلى أمريكا حيث تخصَّصت في هندسة الميكانيك وعدت إلى لبنان بعد غياب حوالي سبع سنوات قضيتها في الدرس والعمل . خلال تلك المدة لم أقرأ الشعر أو أكتبه وكأنه لا يعنيني . عند عودتي إلى لبنان ، اكتشفت أن في العائلة شاعراً آخر طري العود لا يزال في الصف الثالث التكميلي . هذا الشاعر كان أخي الأصغر أحمد مهدي وكان يُسمعني بعض أشعاره ويطلب مني مراجعتها . في تلك المناسبات فقط تذكرت أنني أتـلـذّذ الشعر وما زالت موهبتي الشعرية حاضرة وكنت أنَقّح لأخي بعض قصائده ونتحدث عن الشعر . كان هذا الشاب يوحي لي بأنه سيكون شاعراً في المستقبل إذ أن أفكاره العميقة وتعبيره السهل والواضح كانا ينمّان عن شاعرية مهمة .
مرت السنون ، وسافر أخي إلى أميركا حيث درس إدارة الأعمال ، لكنه ظلّ متواصلاً مع الشعر حتى أنه كان يرسل بعض رسائله لأهله شعراً . وبعد عودته وعمله في الخليج تابع كتاباته الشعرية ولكن ليس بالغزارة المطلوبة ، إلى أن عاد مرة ثانية إلى أميركا للعمل . لكن القدر كان ظالماً علينا جميعاً إذ أنه خلال زيارة عمل إلى الشرق الأوسط جاءته نوبة قلبية وتوفي سنة 1992 .
جمعت عائلته قصائده ومخطوطاته وقرروا طباعتها في كتاب . وهنا تحملت مسؤولية مراجعة قصائده ومعظمها لم أكن قد اطلعت عليه مطلقاً . وبقيت فترة مع الشعر حتى انتهينا من جمع وطباعة ديوانه الذي خرج إلى النور تحت إسم " نور ونار ". أما بالنسبة لي فبدأت رحلة طويلة تزيد عن ثلاثين سنة بعيداً عن قراءة الشعر أو كتابته ما عدا أبيات قليلة كنت أكتبها كخواطر بمناسبات عائلية ، إلى ان هاجرت إلى المملكة العربية السعودية سنة 2000 للعمل .
بقيت عائلتي في لبنان ، وكنت أعيش لوحدي في الغربة . ولما جاء رمضان اتفقت مع بعض الأصدقاء للفطور يومياً في أحد المطاعم في مدينة الخبر . خلال الأحاديث والنوادر التي كنا نتبادلها ، جرى حديث لمحّت فيه لأصدقائي بأنني كنت أكتب الشعر سابقاً . وعندما تحدّوني بدأت بمطلع قصيدة بطريقة إرتجالية ، أكملتها في ما بعد وألقيتها أمامهم في اليوم التالي وقد أسميتها "فطور رمضان " . تعذبت في كتابتها ولم تكن بالمستوى المطلوب وسبب ذلك إبتعادي الطويل عن نظم الشعر . لكن ذلك لم يمنعني من أن أراجعها ، ومن ثم أكتب بعض الأبيات عندما كنت أنفعل بحدث ما . ولكن ما كتبت كان قليلاً جداً .
التحقت بي عائلتي بعد فترة ، وعشنا سوية في الخبر مع إبننا الأصغر بشار الذي كان يتابع دراسته الثانوية ، ومن ثم تبعنا إبننا الأكبر سامر الذي نال شهادة الماجستير في الهندسة المدنية في اميركا وجاء الى الخبر للعمل .
كانت محطة الـ LBC الفضائية تقدم برنامجاً أسمه " المتميزون" ، وكان فيه فقرة مباراة في نظم الشعر المرتجل . كنت أتسابق مع الشعراء الحاضرين في البرنامج إذ كنت أنظم البيت في وقت أقل من الوقت المعطى للمتبارين .
الإنطلاقة الجديدة
في أيلول (سبتمبر 2004) استقرت عائلتي في لبنان وعدت لأعيش لوحدي كمستشار هندسي في إحدى الشركات . كنت أعمل ساعات طويلة في المكتب الهندسي وعندما أعود إلى المنزل ، كنت أودّ أن ارتاح جسدياً وأبتعد عن مشاكل العمل ، فوجدت في القراءة والكتابة المتنفس الأفضل لي . فبدأت أكتب بعض القصائد التي تعكس مشاعري آنذاك . كان هدفي التسلية وقتل الوقت ، إلاّ أنني عندما كنت أقرأ ما كتبت بدأت أشعر بان قصائدي لا بأس بها وبعد قليل من التنقيح من الممكن أن تعتبر قصائد تستحق القراءة من قبل الغير .
كانت زوجتي تتنقل بين لبنان ودبي والسعودية . عندما أتت الى السعودية في هذا الوقت ، أسمعتها ما كتبت من قصائد ، فشجعتني على الإستمرار قائلة بأنه من غير الجائز أن أقمع هذه الموهبة التي أعطاني إياها الله . بالإضافة إلى التشجيع كانت تعطي رأيها الصريح في كل بيت تسمعه أو أي قصيدة تقرأها على الرغم أنها لا تكتب الشعر. بالفعل كانت تتحداني أن أنهي عدداً من القصائد خلال فترة معينة وكأنه مشروع هندسي يجب أن ينتهي في فترة محددة .
بدأت تكرّ سبحة القصائد العائلية والإجتماعية والسياسية والعاطفية بحسب الإنفعالات التي كنت أمر بها . وكان لا يمرّ أسبوع من دون أن أكتب قصيدة أو إثـنـتـيـن وكانت الأفكار تتزاحم في رأسي ، حيث كنت أتعامل مع عدة قصائد في نفس الوقت مما جعل وقتي بعد العمل الهندسي مليئاً بعمل يعطيني مردوداً نفسياً .
بدات أطبع بعض القصائد في المكتب ، وكان كل من يقرأها يتعجب أن مهندساً يكتب الشعر بهذا المستوى ، وهنا أضيف تشجيع آخر من قبل الكثيرين من الزملاء والأصدقاء .
ترسخت الموهبة ، وأعطاني التشجيع دافعاً للعطاء . كنت أدندن الشعر في المنزل وفي الطريق إلى العمل ، وعند تناولي الطعام وكل ذلك إلى درجة الإدمان . كتبت خلال هذه الفترة ، بين سبتمبر 2004 ويوليو 2005 حوالي خمسين قصيدة ، منها ما هو مؤلف من أبيات قليلة تقل عن عدد أصابع اليد ، ومنها ما هو مطولات بعشرات الأبيات .
لا أنكر بأن زوجتي التي شجعتني كثيراً كانت ملهمتي الأولى . ولذلك كتبت لها عدة قصائد ، امتزج فيها حبي لها بمحبتي لعائلتي وأولادي وأحفادي . وبعد ان أخذت منها الأمان بان لا تغار أكثر من اللزوم انطلقت بكتابة القصائد الغزلية مستذكراً أيام الصبا والحالات العاطفية التي مررت بها لتكون معيناً أغرف منه مواضيع قصائدي .
كان احتلال العراق ، والإنتفاضة الفلسطينية وإغتيال الرئيس رفيق الحريري ، وما تبع ذلك من انتفاضات في لبنان ... كل ذلك أعطاني مواداً كثيرة للتعبير عما يجول فــــــي
خاطري من مشاعر تجاهها ، مما جعل قصائدي السياسية تضجّ بثورة عارمة في نفسـي .
مسيرة الشعر بدأت من جديد ، وستستمر بإذن الله ، وسأستمر بالعطاء إلى أن يستعيد الله أمانته . كان مخططي ان أطبع إنتاجي خلال حياتي إذا أمكن ، وإلاّ فسيكون ذلك أمانة عند عائلتي لجمع قصائديي وطباعتها بعد رحيلي لعل فيها فائدة للقراء ولعل أولادي يتعرفون إليّ أكثر ويفتخرون بوالد جمع العلم والأدب ويجدون موضوعاً يتحدثون به . لقد عشت ومحبتي لهم كبيرة وكانوا في أساس حياتي ولذلك فإنني أستحق أن يذكرونني بالخير ويفتخرون بي من خلال الآثار التي سأتركها لهم .
**********************